الأربعاء، 8 يونيو 2011

قراءة نقدية في رواية قونقليز

محاولات على تخوم النقد 

بقلم: الطيب عبد السلام حاج علي
جريدة الأحداث: الأحد 5 يوينه 2011

"قونقليز" هو الاسم الذي اختاره الكاتب هشام آدم عنواناً رمزياً لروايته الفائزة بجائزة الطيب صالح في الرواية مناصفة مع رواية "فركة" للكاتب طه جعفر. تصطادك الرواية منذ غلافها وصورة التداعي والتهاوي الخارجي لما يفترض أنه بطل الرواية، ويحيلك الإهداء بذكاء إلى اللوحة الخارجية على الغلاف، والتي أظن بأنها أولى فصول الرواية غير المكتوبة في كلياتها الرؤيوية لا خصوصياتها النصيّة. ومما لاشك فيه أن أولى عتبات أي كتاب هي غلافه، لأنه يعطينا دلالة ربما تكون خفية وربما تكون واضحة عن مضمون الكتاب ورسالته. وحنكة الكتاب لاشك لا تتوقف فقط في ظني على سرديته، بل على قدرته على اختيار المظهر الخارجي المناسب ليخاطب البصر أولاً لأن البصر جزء لا يتجزأ في عملية التلقي للنص السردي والذي هو بالضرورة كما قال الأستاذ سيف اللعوتة "متكوّن من جزئيات بصرية صورية" من هنا أخلص إلى أن لوحة الغلاف قد مهدت تمهيداً جيداً لتهيئة المتلقي لطبيعة النص الذي سيخوض غماره. وسألقي ضوءاً جزافياً بسيطاً تلخيصاً للرواية ثم أبدأ في عملية تحليل النص معتمداً على معرفتي الذوقية الشخصية.

النص ببساطة يحكي عن فكرة وجود عالمين للبطل: عالمه التصوري الداخلي له والذي يؤمن به، والعالم الخارجي الذي يراه الآخر عبره، وهي تبدأ بعودة البطل "شرف الدين" مما يُرى أنه مقر عمله للتعزية في والدته في العيكورة والتقاؤه بصديقه الصامت "حسن البلولة" ولقاؤه بحبيبته القديمة "وقية عبد الباسط" ورحلاته الشاسعة في عالم ذكرياته الداخلية والتي ارتبطت جوهرياً بحادثة تواجده في معرض تشكيلي بكلية الفنون الجميلة وأن يجد نفسه وسط مظاهرة حاشدة لطلاب الكلية ومن ثم عملية تعرضه للاعتقال وأخيراً نكتشف عن رؤيته الداخلية عن العالم ما هي إلا محض وهم لا صحة له، حيث نكتشف في النهاية أن الشركة التي يفترض أنه يعمل بها ما هي إلا مستشفى التيجاني الماحي، وأن وقية عبد الباسط تزوجت منذ خمسة أعوام لأنها رفضت فكرته حول عدم الإنجاب وأنه لا وجود لحسن البلولة مطلقاً. هذه بإيجاز أهم مجريات الرواية.
مما لاشك فيه أن الرواية فتحت فكرة "الأنا والآخر" على مصراعيها وأهالت من جديد فكرة "مؤامرة الحواس" ومبدأ الشك الديكارتي لكن بصورة أخف وطأة. أحالتنا خاتمة الرواية إلى أسئلة ملحمية أخرى فاجأت بها مخليلاتنا وأذكت نيران انهماكها بالشخوص، فالكاتب لا يريد إفلات قارئيه حتى عند العتبات النهائية ليعيد التفكير مجدداً في كل ما قرأ. هذا الأسلوب أجده صارخاً جداً في روايات أجاثا كريستي البوليسية التي لا زلت أدين لها بفضل البدايات. 

على العموم أظن أن الرواية انبنت على ثيمة فلسفية مسبقة وهي مؤثرة جداً وتعتبر من ثميات الحداثة وما بهد الحداثة أيضاً وهي ثيمة الأنا والآخر، وبصورة استقرائية "ما أعيه أنا تجاهي وتجاه الآخر، وما يعيه الآخر تجاهي وتجاه وعي به". كذلك الكتابة عن حالات الوعي الداخلي المتفردة الشاذة عن قوانين الوعي الجماعي للذات تعتبر أصعبها وأكثرها تكلفة فكرية في أنواع الكتابة لأنها تتطلب درجة عالية من حالات التقمص والخروج من حالة الوعي الطبيعية إلى حالات وعي غير طبيعية مع معرفة دقيقة بدقائق تلك الحالات المثبتة في المعمل. ولا أجانب الجقيقة جينما أقول بأن الأستاذ مأمون التلب هو من أنجح الكتاب الذين قرأت لهم في كتابات التقمص بحيث يتوغل إلى صميم حالته المتقمصة وبالذات في نصه "حالة وجود" الفائزة بالجائزة التقديرية في مسابقة الطيب صالح في القصة. 

كذلك اللغة عند هشام لغة متقدمة ومتمردة وأزعم أنها تحمل طقساً داخلياً دافيئاً مدهشاً في بعض إحالاته. كما أن اللغة عنده تستدرجنا استدراجاً خفياً وقوياً لإكمال كتابته أي أنه من الصعب أن تفلتك، بل إنها لغة "سواقة" وجزلة وبسيطة وعميقة في آن. كذلك طرحت الرواية جملة من الرؤى الوجودية للبطل والذي أزعم أنه لا ينفك أبداً عن الكاتب حيث يصارحنا عاصماً بطله من قيود المسألة القانونية إلى رمزية "الجب والله" في صفحة (48) كذلك يعيدنا الكاتب مرة أخرى إلى فكرة "النص البصري" وارتباطه بالنص السردي حيث يتناول على لسان بطله "شرف الدين" حزمة من الرؤى النقدية للوحة سلفادور دالي المتحدثة عن انصهار الساعة وذوبانها، واعتراضه على توقيتها في الساعة الثانية عشرة، واعتقاده بأنه كان يجب عليه استخدام الضوء في تعبيره عن الزمن. وبحكم أن بطل القصة "شرف الدين" لديه معرفة غريزية عن التشكيل والنحت وكيف أنه انشده بمنحوتة رجل في حالة تداع داخلي هي ذاتها اللوحة التي كانت على صدر الغلاف. 

على الرغم من كل هذا الزخم الفلسفي والرؤيوي في الرواية إلا أنني أخذت عليها مجموعة من المآخذ الخاصة من وجهة نظري، وهي ان الرواية لا تحوي كل تلك الأبعاد من الأحداث والتفاعلات المحمومة التي هي في ظني من سمات الرواية التي دائماً ما تكون حبلى بالأحداث. ففي هذه الرواية يمكننا القبض بسهولة على أحداث جوهرية وأحداث ثانيوية مرتبطة بها بسهولة شديدة. وهي أيضاً ليست مليئة بالشخصيات المؤثرة والفعالة والتقاط أحداث مفتاحية يدور حولها السياقان الرؤيويان "الذاتي والآخر": وفاة الوالدة – وجوده بالمعرض – انشداهته بالمنحوتة – المظاهرات – عملية التعذيب التي انتهك فيها شرف الدين جسدياً وأخلاقياً وفي ظني أن بقية الأحداث شكلت تفاصيل هذه الأحداث المحورية. كما أن عنصر المباغتة والمفاجأة فيها ضعيف كذلك تكنيك الحكي الانسيابي هو من الأمور العادية في الرواية. كما أن عملية الإدهاش والصدم فيها ليست بذلك القوة. 

يمكنني القول وبثقة مبدئية إنها "قصة ترهلت" ومن يدري فقد تكون هذه الطريقة في تخفيف الأحداث والتماهي مع الرؤية التفسرية الانفعالية الداخلية لها قد تكون من سمات الروايات الجديدة ومن تكنيكات الحدث الجديدة في الرواية والتي تقودني طوعاً وكرهاً إلى تقييمي لـ(الحب في زمن الكوليرا) من حيث فقر الأحداث وروتينيتها، وكيف أنها كانت ستكون أنجح لو كانت قصة قصيرة. ولربما تتحول اللغة السردية في حد ذاتها إلى غاية، كما قال حافظ خير في كتاباته في "سودانيزأولاين" الرواية وكما قال الأستاذ عز الدين ميرغني: "إنها تنتمي لتيار الوعي" وأعتبرها أنا من إنجازات الحداثة في السودان. وللأسف قل ما تجد به روايات ناضجة كثيرة وفق ما يردنا من مطبوعات، ولذلك أجدني أضع هذه الرواية في سلسلة الروايات الناضجة لمطبوعات عبد الكريم ميرغني (ذاكرة شريرة)، (أحوال المحارب القديم)، (مشروع إبراهيم الأسمر الروائي)، (الجنقر مسامير الأرض)، (فركة) ... إلخ. أختم محاولتي النقدية هذه بالقول إن رواية "قونقليز" جديرة جداً بالقراءة لكل الكتاب خصوصاً والمهتمين عموماً.

هناك تعليقان (2):

  1. مدونه اكثر من رائعه
    سبحان الله وبحمده يبحان الله العظيم
    http://www.tjaraldoha.com/vb

    ردحذف